خمس امتار بالتمام تعيد الثقافه

من طرف زائر السبت يونيو 27 2009, 03:06

الآن جاء الدور على ، الآن فقط أستطيع أن أثبت للعالم أنني موجود. والآن أحسست بالفضاء يتسع من حولي .. تسربت رعشة وترت أعصابي ، جعلت أسناني تصطك ببعضها ، بدت التكات رنين جرس في رأسي ، زادت دقات قلبي ... الترقب والانتظار زادا من حدة التوتر ، تثلجت أطرافي ، درت في مجرات الكواكب ، ذهب عقلي للبعيد مع رجفة النهاية ، إلا أن أشعة الشمس القريبة لسعتني محاولة تهدئتي ..

أنا الوحيد في هذا الفراغ ، أفزعني ذلك المخلوق الفاتح شدقيه مبتلعا السماء ، عيناه الجاحظة تشع شررا يشبه النيازك .. لو سقطت على واحدة لأحرقتني ... يا منجى من المهالك علت قهقهاته .. زلزلت الدنيا .. أكلت الريح من الصبة الخرسانية ذرات رمل عفرتتي ، صهلت خيول الرعد ، سيف البرق شق الغيوم المتراكمة فنزفت قطرات المطر ، اقشعر بدني أنا الواقف وحيدا أرقب الناس تحت قدمي ، خمسة أمتار بالتمام والكمال ، نفس المسافة التي اعتدت عليها من موضع قدمي إلى سطح الماء اللامع ، زغللت عيني ، أوقعني الخوف في دوامة الدوخة ، اختلطت المخلوقات الرمادية.

تماسكت محاولا قتل المخلوق الشيطاني الذي احتواني ، بقدر استطاعتي صمدت ، بالتأكيد سوف يتخاذل مع التركيز ، وامتصاص نظراته النارية ، المهم الجرأة - ذرة شجاعة .. سحرتني .. أنعشت بدني (الكاشش) ركزت في الحصوات البنية البارزة من الخرسانة ، باسترخاء حاولت .. لابد من التغلب على التردد ، تلك العادة التي أفقدتني أختي الصغرى " أسماء ” وهى تستنجد بي من الغرق ، كانت تقب وتغطس ، وأنا واقف مشلول الحركة ومن يومها تعلمت السباحة ، لكن هذه العادة الذميمة ما زالت تلازمني ، تظهر بمثابة صدمة في المواقف الصعبة ، هذه اللحظة بالذات لا يمكن التراجع ، لحظة مصيرية في حياتي ، لقد ضاعت حبيبتي (هالة) حين خيرتني بين التقدم لخطبتها أو الفراق ، ترددت وتخاذلت عن نجدتها من سطوة أبيها الطماع ، باعها لرجل ثرى يكبرها في السن ، الآن لا يوجد فرصة للاختيار ، إما الحياة أو الموت ، أعتقد أنه مهما كان الأمر فإن المسألة منتهية و"يا روح ما بعدك روح" ، دوت الإشارة زعقة أحدثت دويا رهيبا أصم أذني … ……

إنسخطت الأرض بمن عليها ، الجمهور المحتشد في المدرجات أسراب نمل أسود ، الهمهمات غلفت المكان بالضوضاء ، و" البسين " نقطة من السماء الزرقاء ، بحرص شديد تحركت ناظرا للأمام ، محدقا في الفضاء الواسع ، مد المخلوق العملاق كفه .. غمى عيني بغيمة كثيفة ، اختفت أشعة الشمس ، ركبت جواد الجرأة ، مشدود السرج بعد أن جذبني بريق عينيه من صمت التردد ، متماسكا صعدت إلى السماء دائرا في دوامات ملكوت الوحدة ، فارسا أصارع الريح والعملاق. بالتأكيد .. لو انزلقت قدمي ستكون النهاية الحتمية ، لكن صعود الروح من هنا أسهل بكثير بالنسبة لملك الموت .. أليس كذلك ..؟! سوف أوفر عليه الجهد ، وأصعد وحدي. بدت العصافير الرمادية صغيرة ، و أسراب الطيور صغيرة ، والكائنات على الأرض صغيرة ، فتضاءلت إلى نقطة في فضاء الكون الكبير.

هذه القفزة المصيرية .. بها ستعود إلى ثقتي المهزوزة .. عليها يتوقف مستقبلي ، حياتي ، تكسبني القدرة على اتخاذ القرار دون تردد.

اقتربت من حافة المقفز ، تأهلت في وضع الاستعداد ، علت دقات قلبي ، ازدادت الرعشة ، أغمضت عيني ، استنشقت نفساً عميقا من الهواء البارد.

فجأة .. اختل توازني ، انزلقت قدمي اليسرى ، وحدي في الهواء ، خفيف الوزن ، ريشة تحملها الريح ، لا أعرف أي يد خفية دفعتني ، انجذبت إلى أسفل ، هي النهاية لا محالة لو سقطت على حافة الحمام الرخامية لتهشمت عظامي ، غيمت الدنيا ، وأظلمت ، صراخ أحنى تستغيث بي ، وجه (هالة) القمري أغرقته الدموع ، أتهاوى ..

من المستحيل إنقاذي إلا بمعجزة ربانية تنتشلني ، حاولت قدر استطاعتي ، فاردا ذراعي أرفرف كعصفور حر مسرع ، منتوف الريش ، انجذبت دون جدوى إلى أسفل ، بجهد لويت جسدي الممطوط ، بصعوبة غيرت حركة كتلة اللحم المتهاوية.

يا قادر ... زعقت من داخلي ، فقلبتني يد الريح (شقلباز) نصف دائرة مستعدلا وضعي في الهواء البارد حتى لا يلاحظ أحد زلة قدمي هذه .. فردت ذراعي بمحاذاة رأسي الساكنة بينهما وجهي إلى أسفل ، إنخطفت بفعل الجاذبية الأرضية.

لا شك أن كل سالب له موجب ، وبما أنني قطب سالب ، والأرض الموجب .. فانجذبت بسرعة المغناطيس ، تلاشت كل الكائنات .. اخترقني صفير الهواء متسللا إلى طبلة أذني ، بانسيابية غطست .. هويت إلى أسفل القاع ، بدأت قوة الدفع والجذب تتلاشى شيئا فشيئا مع الارتطام بالماء ، تراخت عضلاتي المشدودة بعد تفادى كرباج الماء ، لو ضربني لشق بطني وأصابني في مقتل.

حين شعرت بدفء الحمام ، انتعشت ، دفعت جسدي إلى أعلى ، ضاربا ذراعي ، صاعدا إلى أعلى ، بدأت أنفاسي تنتظم .. شهيق .. زفير .. استرخيت على ظهري طافيا ، هد ائت دقات قلبي .. بحفنة ماء غسلت وجهي نافخا الهواء ، تفتت الرعشة والخوف إلى ذرات وتلاشت مع فقاعات الزبد الصغيرة المتطايرة على سطح البيسين .

علت الهتافات ، والتصفيق من صفوف البشر الجالسين يشاهدون المسابقة من بدايتها بالتأكيد يتعاطفون معي ، لا يريدون إشعاري بالهزيمة.

ظهرت الدنيا كما هى الدنيا ، والناس كما هى الناس بسحنتهم ، وأحجامهم ، وعاد لجسدي وزنه ورشاقته ، وحيويته التي امتصها الرعب والفزع .

اقتربوا مهللين عند خروجي من الحمام ، فرت الدموع من عيني ، غامت الدنيا ، وانتابتني رجفة دغدغتني ، فارتميت في أحضان الكابتن "محمود" مدربي ، وبكيت .. أغرقتني قبلاته الحارة ، تراخيت مستسلما لحضنه ، دفعني وهو يشد على كتفي ..

· قفزة عظيمة يا بطل ..!

ضاعت الثواني واللحظات حين أعلن ميكروفون المذيع الداخلي فوزي ، وتحطيم الرقم العالمي ، ازداد التصفيق والهتافات ، بحماس حملوني على الأعناق ، مغيب الوعي ، نظرت إلى السماء أرقب الطيور الراحلة للبعيد ، والشمس التي احمرت أعلنت المغيب ، بدا المخلوق الخرافي بين الغيوم الكثيفة يقهقه بسخرية عالية أصمت أذني ، عدت متخاذلا أنا البطل فوق جواد الصمت ، أحدق في السماوات باحثا عن اليد التي أنقذتني ، وعدلت وضع جسدي أثناء سقوطي من فوق المقفز، فانجذبت ناحية النور الكامن في أعماق الكون.